ترجمة الشعر فتبقى من أصعب أمور الترجمة ، إذ أنها تبرز بشكل واضح حالة التجاذب والتنازع (state of tension ) بين اللغتين وبين الجمالية والدلالية في النص . وقد كان الأستاذ جورج جدعون المحاضر في الترجمة بكلية الآداب في الجامعة اللبنانية يقول : " الترجمة من الشعر إلى الشعر مَركبٌ صعب " . أما الشاعر الروسي والمترجم الشهير ايفيجيني ايفتوشنكو ( Yevgeny Yevtushenko ) فقد قال ذات مرة في معرض حديثه عن الشعر والترجمة : " الترجمة من الشعر إلى الشعر كالمرأة : إذا كانت جميلة لم تكن مخلصة ، وإذا كانت مخلصة لم تكن جميلة " ( مع الاعتذار بالطبع إلى القارئات الكريمات ) . وعن الموضوع ذاته ، قال الشاعر الفرنسي بيار ليريس (Pierre Leyris) في مقابلة مع صحيفة الهيرالد تربيون انترناشيونال في 4 آذار / مارس 1981 : " ترجمة الشعر أمرٌ مستحيل ، والامتناع عن ترجمته أمر مستحيل " . ذلك أن تفاعل الحضارات والشعوب يحتم تناقل نتاجها الأدبي والفكري بينها .
عندما سئل الشاعر الإنجليزي إدوارد فتزجيرالد ( 1856 ) عن منهجيته في ترجمة رباعيات عمر الخيام من الفارسية إلى الإنجليزية قال ما فحواه أنه يأخذ نتاج شعوب متخلفة ويحوله إلى روائع أدبية بلغته المتفوقة ، يعني اللغة الإنجليزية . أما الناقد الأميركي أدموند ويلسون فرأيه كالآتي : " لطالما قلتُ إن أفضل الترجمات - الرباعيات مثلاً - هي تلك التي تبتعد عن الأصل كثيراً ، ذلك إذا كان المترجم نفسه شاعراً جيداً " (The New Yorker ) . وهذا الأسلوب الذي يعرف بـtranscreation أو الترجمة الإبداعية ( أو الترإبداعية إذا صح التعبير) ( 1 ) انتعش من جديد في مرحلة ما بعد الاستعمارية
( post-colonialism ) وصار بدعةً في زمن العولمة الذي فرضت فيه اللغة الإنجليزية نفسها أداةً للتواصل والتعبير على صعيد عالمي . فنجد جمهرة من الأدباء والشعراء يعتمدون هذا النهج القديم الجديد في نقل نتاج شعوب وحضارات أخرى إلى اللغة الإنجليزية بالدرجة الأولى وإلى اللغات الأخرى بدرجة أقل . فقد اعتمده الشاعر الأميركي إزرى باوند (Ezra Pound ) كشكل من أشكال النقد الأدبي في ترجمته للشعر الصيني إلى اللغة الإنجليزية ، ومن قبله فتزجيرالد كما ذكرنا في ترجمة رباعيات عمر الخيام . واعتمده في العربية في عصر النهضة مصطفى لطفي المنفلوطي في نقل ماجدولين والشاعر والفضيلة وغيرها من رواياته وقصصه القصيرة . وقد أخذ النقاد على المنفلوطي أنه كان يجهل اللغة التي ينقل منها ، فكانت ترجمته سماعية (hearsay translation ) ، مما دفع بالأديب اللبناني عمر فاخوري إلى أن يقول في معرباته : " إن للمنفلوطي رأياً عجيباً في التعريب وجرأة على التغيير والتحوير والقلب عالياً على سافل ، جرأة لا يسمح المؤلف نفسه لنفسه بأكثر منها ..." ( 2 ) ولاشك أن نتاج الشعوب والحضارات قد انتقل من حضارة إلى أخرى من طريق الترجمة بشكل رئيسي ومن طريق الاقتباس والتناقل والتداول ، فألبست الأمم والشعوب النتاج المقترض حلةً محليةً وطبعته بطابعها الخاص . غير أن هذا النتاج لم يكتسب ملامحه المحلية إلا بعد مروره في عدة مراحل تطبيعية من الترجمة إلى الاقتباس فالتأصل . والمنهج الترابداعي يختصر هذه العملية ضارباً عرض الحائط بشروط كثيرة تقوم عليها الترجمة السليمة ، ويخرج بها خروجاً سافراً عن حدود النص الأصلي ومعالمه .
المقاطع من قصيدة للشاعر الفلسطيني توفيق زيّاد :
" أنا خائفٌ يا قمر ،
منك من ضوئك المنكسر .
أخوي الكبير مضى ولم يعد منذ الصباح ،
وأمي موجعة في الباب تنتظر ... "
نكتفي هنا بالتركيز على كلمة ( أخوي ) ، لندرك أبعادها الوطنية والاجتماعية والنفسية التي تحتجب عن قارئ لا يشترك في ذاتية الشاعر أو واقع حاله . فالشاعر لم يستخدم كلمة ( أخي ) لضرورات شعرية تتعلق بالوزن والتفعيلة فحسب ، وإنما اختار كلمة ( أخوي ) لما تحمله هذه الكلمة من مشاعر فلسطينية عربية . وآن فيربيرن بمنهجها الترابداعي يعاني من غياب الذاتية المشتركة وتلك التجربة . فهو يفتقر إلى التفاعل الأصلي بين القصيدة والمترجم كقارئ للقصيدة يجسد التجربة الجمالية والعاطفية والفنية للقصيدة التي يعبر عنها الشاعر قبل أن ينوي القيام بالترجمة . فلنتناول هنا ترجمة آن فيربيرن لمقطع من قصيدة " أمهات بلا أمومة " للأديبة المهجرية الأسترالية نجاة مرسي . تقول نجاة :
" أنتِ شجرة بلا ثمر ..
وأمسيةٌ بلا قمر ..
نحن نولد الأجنّة ..
ونعمر الكون .. حياتنا لأولادنا ..
وأولادنا لبلادنا..
***
أنا الشجرة الوارفة ..
رسالتي ..
أن أزرع الظل والجمال ..
حياتي .. كلها عطاء ..
عرفت طعم الحرمان .
أنتم أتخمتم الكون بالسكان ..
سببتم المجاعات ..
وأزمات المسكان ..
والمقابر... "
و قوة هذه القصيدة لا تكمن في بساطة التعبير والأسلوب النثري وانتفاء الوزن والتفعيلة ، بل في الحوار بين مجموعة من النساء والشاعرة ، وفي تبادل الأدوار دون أن تؤذن الشاعرة بذلك للقارئ ( قلن وقالت ) فنسمع صوت النساء ثم صوت الشاعرة في جدل وملامة وعتاب ( لاحظ هنا أن الشاعرة خاطبتهن لأمر غريب عجيب بصيغة المذكر ، " أنتم أتخمتم بدلاً من أنتن أتخمتنّ " ، فجمعت بينهن وبين أزواجهن على ما أعتقد ) . ولكن آن فيربيرن " ترجمت " أو قل نقلت مضامين القصيدة كالآتي :
They said;
You are a fruitless tree,
A moonless night.
We give birth to offsprings,
populate the world.
Our life is our children,
and our children are for our countries.
She answered;
My mission is to spread shade and beauty;
My life is giving.
I have tasted deprivation.
You overpopulate the world,
You caused famines,
or accommodation crisis,
or caused wars.
هنا نرى أن المترجمة ارتأت أن تستعمل ( they said ) و ( she answered ) ، وبذلك أخفقت في ناحيتين هامتين : الأولى ، أنها حولت الصيغة من الحاضر إلى الماضي ، فجعلت من الحوار حدثاً قديماً ، والثانية ، أنها أضعفت من الأسلوب البلاغي في النص الأصلي بتحديد صيغة الغائب . فالشاعرة نجاة لم تقصد ( قلن هن و أجابت هي ) كما فعلت آن ، بل تركت ذلك خياراً مفتوحاً أمام القارئ أو القارئة التي قد تجد نفسها في مكان الشاعرة ، ( قلتنّ وقلتُ ) متجاوزة بذلك حدود المكان والزمان وصيغة التخاطب . وإدخال مؤشرات تبادل الأدوار ( they said and she answered ) أفقد القصيدة فورية التواصل والتخاطب بين الطرفين وقلل من تلك التجربة الاحتواذية بين الشاعرة والقارئ .