الموسيقى.. الغناء.. الرقص ثالوث لاقتناص غموض الطبيعة
استوطنوا شمال امريكا في اواخر العصر الجليدي قبل قرابة خمسة عشر الف عام, واوغلوا في بنائهم الحضاري الذي كشفت الدراسات المتخصصة الكثير من أسراره وغموضه, وهذه الضبابية في معرفة حيثيات حضارتهم تعزى لانعزال هذه البنية الحضارية جغرافياً عن الشق الآخر من العالم,
والآن لم يبقى منهم سوى تلك الافلام المعلبة على ارفف الانتاج الهوليودي الذي أهدتهم اياها حضارة (الانجلوسكسوني) ووضعتهم في خانة البدائية والهمجية... انهم (الهنود الحمر) الشعب الذي مورس في حقه أبشع جرائم (الفناء العرقي) في التاريخ الانساني,
فالهنود الحمر مازالوا يعيشون على ارض امريكا ويتكلمون لغتهم الأم بتعدد منابعها ولهجاتها, ومازالوا يعرّفون انفسهم بإنتماءاتهم القبلية, كقبيلة (السو) و(الشين) و(الجومبي) ويمارسون طقوسهم ويعتنقون معتقداتهم الروحية ويطلقون تلك الاسماء المستقاة من الطبيعة وانصهارهم معها... (النسر الجيد) , (السحابة الحمراء) , (راقص الاعشاب) ...
... الآلة الموسيقية الرئيسية هي الطبل... المصنوعة من احشاء الحيوانات والايقاعات البدائية في تركيبها الزمني, والعميقة بحسها المفعم بنبض البناء الجماعي للمجتمعات الهندية الحمراء, اما الغناء الجماعي الذي يتبع الصوت الرئيسي (راقص الاعشاب) فهو يمتاز بطبقات تستدعي قدرات صوتية خاصة فهي قريبة الى القرار ولكن بحدية السبرانو الامر الذي يتطلب جهدا كبيرا من المؤدي... وهذه الطبقات الصوتية هي مناغاة لأصوات الحيوانات والطيور احدى اهم عوامل التركيبة الحياتية لمجتمع الهنود الحمر. من البديهي للجميع ان الغناء والموسيقى هو جزء اساسي من المشهد الثقافي لاي مجتمع بشري لكن الامر يبدو مختلفا عند الهنود الحمر.. فثالوث الغناء والموسيقى والرقص هو الوقود الذي تمارس من خلاله كافة طقوس الحياة اليومية... هذه الفنون بالنسبة للهنود الحمر ليست ترفا روحيا او فكريا فحسب بل هي اساس يبنى عليه علاقتهم مع البيئة المحيطة ومن خلاله يكتشفون الطبيعة ويكتسبون تفاعلهم الوثيق معها مما يمنحهم البقاء والاندماج في المنظومة الكونية. وبلغة اخرى الموسيقى والغناء والرقص هم مفاتيح الهنود الحمر للتعرف على المتغيرات المحيطة والمؤثرة على تركيبتهم الاجتماعية ونسج علاقة مع هذه العوامل التي تشكل عالمهم.
يوم جديد احدى الرقصات التي اعتادت ممارستها بعض قبائل الهنود الحمر هي رقصة الفجر المستقاة من حوارية طائر (الديك الرومي) التي يمارسها مع كل فجر.. تلك النقنقات والاستشعارات التي تمارسها هذه الطيور استوقفت روح الهنود الحمر وتقمصوا من خلال هذه الرقصة التشكيل الجسدي للطائر والبعد الوجداني لهذا التشكيل وكيفية استقبال هذه الكائنات لاسارير الصباح... الاداء بهذه الرقصة يعتمد على الايقاع الحركي والتشكيل الجسدي لهذا الطائر وحركاته العشوائية في تلمس اقرانه والتباعد عنهم ليستنبط من هذه الحوارية ان هذه الروح التي ركدت خلال ظلمة الليل تعيد استنهاض قوامها وضبط ايقاعها مع هذا الفجر الجديد.
النسر الطائر النسر من أبرز الكائنات التي اثرت الهوية الثقافية لدى الهنود الحمر وفي رقصتهم هذه يقف الراقص الذي يكتسي بريش النسر مشكلا الجناحين والذيل في حالة الانكماش وكأنه جنين يندثر في رحم الطبيعة, وبعد ان تقوم آلة (الفلوت) الخشبية النفخية بتهيئة الاجواء للتحليق الروحي تأتي الايقاعات المتصاعدة بتركيبتها الزمنية لاستنهاض هذا الكائن من رحم الطبيعة الام للتحليق بحرية في مدار تلك الحلقة, الوقار والاتزان هو سمة الاداء في هذه الرقصة والحرية والقوة والصفاء الذهني هي الرمزية الجلية التي تحملها هذه الرقصة التي يرافقها صيحات تهليل لعظمة ورونق هذا الكائن المحلق.
رقصة الغابة هذه الرقصة النسائية تحمل وراءها اسطورة تعبر عن جمالية تعايش الهنود الحمر مع الطبيعة ودورتها. الاسطورة عن طفلة اصابها المرض وتوافد عليها رجال الطب او (الشامان) من كافة القبائل المجاورة لعلاجها لكن المرض ظل يلازمها ولم يبقى سوى انتظار يوم رحيل هذه الطفلة الى العالم الآخر. لكن (الروح العظيمة) وفقا للاسطورة حملت الى جد الطفلة رؤية في منامه, ومع اطلالة الفجر خرج (الجد) لتنفيذ ما املته عليه (الروح العظيمة) عبر تلك الرؤية, وهام الجد في الغابات لالتقاط عظام الطيور النافقة ومن ثم عكف على تحضير ثوب من هذه العظام وألبسة لحفيدته التي استيقظت في صباح اليوم التالي بكامل عافيتها. دلالة الاسطورة تكمن في علاقة الهنود الحمر مع الكائنات, وايمانهم بأن عظام الكائنات تحمل في داخلها قوة هذه الروح التي سكنت هذه الكائنات قبل موتها.
مراحل الصيد وبالطبع فإن رقصة (البفالو) او الثور هي من ابرز رقصات الهنود الحمر التي تجسد الطقس الاكثر حيوية في حياتهم.. صيد الثيران التي تمثل بعدا استراتيجيا في حياة الهنود الحمر كونهم مستهلكين راشدين للطبيعة, فغنائم صيدهم يتم استغلالها بشكل شبه كامل, اذ تستخدم للغذاء ولصناعة الخيام واللباس وكذلك الادوات وحتى الحلي... وطقوس الصيد تحمل مرحلتين الاولى قبل الخروج للصيد وتمتاز هذه الرقصة بالرشاقة العالية والحركات وردود الفعل السريعة التي تهيئ جسد وذهن الصياد لانجاز مهامه بنجاح... والمرحلة الثانية من طقس الصيد هي بعد سقوط الفريسة, وهنا تقدم عدة اغنيات وتراتيل خاصة, كاعتذار الى روح هذا الكائن واحترام لقوته, ويظفر عادة رجل الطب او (الشامان) بروح هذا الحيوان, إذ تسكن جسده ويستمد من خلالها القوة الروحية ليتابع القيام بدوره الحيوي في مجتمع القبيلة.